قدم على رسول الله صلى الله
عليه واله وفد نجران فيهم بضعة عشر رجلا من أشرافهم ، وثلاثة نفر يتولون
أمورهم : العاقب وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه
وأمره ، واسمه عبدالمسيح ، والسيد وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، واسمه الايهم
، وأبوحارثة بن علقمة الاسقف ، وهو حبرهم و إمامهم وصاحب مدارسهم ، وله
فيهم شرف ومنزلة ، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنايس ، وبسطوا عليه
الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما وجهوا إلى رسول الله
جلس أبوحارثة على بغله وإلى جنبه أخ له يقال له : كرز أو بشر بن علقمة
يسايره ، إذا عثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كرز : تعس الابعد يعني رسول الله صلى الله عليه اله ، وقال له أبوحارثة : بل أنت تعست ، قال : له ولم يا أخ ؟ فقال : والله
إنه للنبي الذي كنا ننتظر فقال كرز : فما يمنعك أن تتبعه ؟ فقال : ما صنع
بنا هؤلاء القوم ، شرفونا ومولوناو أكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ، ولوفعلت
نزعوا منا كل ما ترى ، فأضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم ، ثم مر يضرب
راحلته ويقول : إليك تغدو قلقا وضينها * معترضا في بطنها جنينها مخالفا
دين النصارى دينها .
فلما قدم على النبي صلى الله عليه واله أسلم ، قال : فقدموا على رسول الله وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحيرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب ، فقال أبوبكر : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لو لبست حلتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها ، قال : أتوا رسول الله صلى الله
عليه واله فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام ولم يكلمهم فانطلقوا يبتغون
عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم ، فوجدوهما في مجلس من
المهاجرين فقالوا : إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه
فسلمناعليه فلم يرد سلامنا ولم يكلمنا ، فما الرأي ؟ فقالا لعلي بن أبي
طالب : ما ترى يا أباالحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : أري أن يضعوا حللهم هذه
وخوانيمهم ثم يعودون إليه ، ففعلوا ذلك فسلموا فرد سلامهم ثم قال : والذي
بعثني بالحق لقد أتوني المرة الاولى وإن إبليس لمعهم ، ثم ساءلوه ودارسوه
يومهم ، وقال الاسقف : ما تقول في السيد المسيح يا محمد ؟ قال : هو عبدالله ورسوله ، قال : بل هو كذا كذا ، فقال عليه السلام : بل هو كذا وكذا فترادا ، فنزل على رسول الله من صدر سورة آل عمران نحو من سبعين آية يتبع بعضها بعضا وفيما أنزل الله : " إن مثل عيسى عندالله كمثل آدم خلقه من تراب " إلى قوله : " على الكاذبين " فقالوا للنبي صلى الله
عليه واله : نباهلك غدا : وقال أبوحارثة لاصحابه : انظروا فإن كان محمد
غدا بولده وأهل بيته فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه .
قال أبان : حدثني الحسين بن دينار ، عن الحسن البصري قال : غدا رسول الله
آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة ، وبين يديه علي ، وغدا العاقب والسيد
بابنين على أحدهما درتان كأنهما بيضتا حمام ، فحفوا بأبي حارثة ، فقال
أبوحارثة : من هؤلاء معه ؟ قالوا : هذا ابن عمه زوج ابنته ، وهذان ابنا
ابنته ، وهذه بنته أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ، وتقدم رسول الله صلى الله عليه واله فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة : جثا والله
كما جثا الانبياء للمباهلة فكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيد :
ادن يا باحارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إني لارى رجلا جريئا على المباهلة
وأنا أخاف أن يكون صادقا فلا يحول والله
علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء ، قال : وكان نزل العذاب من
السماء لو باهلوه ، فقالوا : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك .
فصالحهم رسول الله
على ألفي حلة من حلل الاواقي قيمة كل حلة أربعون درهما جيادا ، وكتب لهم
بذلك كتابا ، وقال لابي حارثة الاسقف : لكأنني بك قد ذهبت إلى رحلك وأنت
وسنان فجعلت مقدمه مؤخره فلمارجع قام يرحل راحلته فجعل رحله مقلوبا فقال :
أشهد أن رسول الله صلى الله عليه واله. (1)
-----
(1) البحار ج21 ص3336